فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة الطارق:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم).
(بسم الله) اسم عزيز إذا أراد إعزاز عبد وقفه لعرفانه، ثم زينه بإحسانه، ثم استخلصه بامتنانه، فعصمه من عصيانه، وقام بحسن التولي ن في جميع أحواله بشأنه، ثم قبضه على إيمانه، ن ثم بوأه في جنانه، وأكرمه برضوانه، ثم أكمل عليه نعمته برؤيته وعيانه.
قوله جلّ ذكره: {وَالسماء وَالطَّارِقِ}.
أقسم بالسماء، وبالنجمِ الذي يَطْرُق ليلاً.
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ}.
استفهامٌ يراد منه تفخيم شأن هذا النجم.
{النَّجْمُ الثَّاقِبُ}.
المضيءُ العالي.
وقيل: الذي ترمى به الشياطين.
ويقال: هي نجوم المعرفة التي تدل على التوحيد يستضيءُ بنورها ويهتدي بها أولو البصائر.
{إن كل نفس لما عليها حافظ}.
ما مِنْ نَفْسٍ إلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عملَه ورزقَه وأجلَه، ويحمله على دوامِ التيقُّظ وجميلِ التحفُّظ.
قوله جلّ ذكره: {فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مم خلق خلق مِن مَّاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب وَالتَّرَآئِبِ}.
يخرج من صُلْبِ الأب، وتربيةِ الأم.
وهو بذلك يحثُّه على النَّظَرِ والاستدلال حتى يعرف كمال قدرته وعلمه وإرادته- سبحانه.
{إِنَّهُ على رجعه لَقَادِرٌ}.
إنه على بَعْثِه، وخَلْقِه مرةً أخرى لقادِرٌ؛ لأنه قادر على الكمال- والقدرةُ على الشيءِ تقتضي القدرةَ على مِثْلِه، والإعادة في معنى الابتداء.
{يوم تبلى السَّرَآئِرُ}.
يوم تُمْتَحنُ الضمائر.
{فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}.
أي ما لهذا الإنسان- يومئذٍ- من مُعين يدفع عنه حُكْمَ الله.
{وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ}.
أي المطر.
{وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}.
{الصدع}: الانشقاق بالنباتِ للزرع والشجر.
{إِنَّهُ لَقول فَصْلٌ}.
أي: إن القرآن لقول جَزْمٌ.
{وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}.
الهزل ضد الجِدّ، فليس القرآن بباطلٍ ولا لَعِب.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّهُمْ يكيدون كَيْداً}.
أي يحتالون حيلةً.
{وَأَكِيدُ كَيْداً}.
هم يحتالون حيلةً، ونحن نُحْكِمُ فِعْلاً ونُبْرِمُ خَلْقاً، ونجازيهم على كيدهم، بما نعاملهم به من الاستدراج والإمهال.
{فَمِهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَا}.
أي أَنظِرهم، وأمهِلهم قليلاً، وأرْوِدْهم رويداً. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الطارق فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ:
الْآيَةُ الأولى قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ مم خلق خلق مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
بَيَّنَ اللَّهُ تعالى مَحَلَّ الْمَاءِ الَّذي يُنْتَزَعُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ بَيْنَ الصلب وَالتَّرَائِبِ، تُزْعِجُهُ الْقدرةُ، وَتُمَيِّزُهُ الْحِكْمَةُ، وَقَدْ قال الْأَطِبَّاءُ: إنَّهُ الدَّمُ الَّذي تَطْبُخُهُ الطَّبِيعَةُ بِوَاسِطَةِ الشَّهْوَةِ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَبَدًا إلَّا بِخَبَرٍ صَادِقٍ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ، وَالنَّظَرُ الْعَقْلِيُّ لَا يُنْتَهَى إلَيْهِ، وَكُلُّ مَا يَصِفُونَ فِيهِ دَعْوَى يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَقًّا، بَيْدَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَعْيِينِهَا كَمَا قَدَّمْنَا؛ وَلَا دَلِيلَ على تَخْصِيصِهَا حَسْبَمَا أَوْضَحْنَا.
وَاَلَّذي يَدُلُّ على صِحَّةِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قرار مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} وَهِيَ الدَّمُ؛ فَأَخْبَرَ تعالى أَنَّ الدَّمَ هُوَ الطَّوْرُ الثَّالِثُ، وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ الطَّوْرُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ مِمَّنْ يَجْهَلُ.
فَإِنْ قِيلَ – وَهِيَ المسألة الثانية-:
فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّهُ نَجِسٌ؟
قلنا: قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَأَخَذْنَا مَعَهُمْ فِيهِ كُلَّ طَرِيقٍ، وَمَلْكنَا عَلَيْهِمْ بِثَبْتِ الْأَدِلَّةِ كُلَّ ثَنِيَّةٍ لِلنَّظَرِ.
فَلَمْ يَجِدُوا لِلسُّلُوكِ إلَى مَرَامِهِمْ مِنْ أَنَّهُ طَاهِرٌ سَبِيلًا، وَأَقْرَبُهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ على ثَقْبِ الْبَوْلِ عِنْدَ طَرَفِ الْكَمَرَةِ فَيَتَنَجَّسُ بِمُرُورِهِ على مَحَلٍّ نَجِسٍ.
الْآيَةُ الثانية قوله تعالى: {يوم تبلى السَّرَائِرُ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قولهُ: {يوم تبلى السَّرَائِرُ} يَعْنِي تُخْتَبَرُ الضَّمَائِرُ، وَتَكْشِفُ مَا كَانَ فِيهَا.
و{السرائر} تَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ التَّكْلِيفِ وَالْأَفْعَالِ.
المسألة الثانية:
أَمَّا {السرائر} فَقال مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْهُ وَسَأَلَهُ عَنْ قوله تعالى: {يوم تبلى السَّرَائِرُ} أَبَلَغَك أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ {السَّرَائِرِ}؟ قال: قَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ فِيمَا يَقول النَّاسُ، فَأَمَّا حديث أَخَذْته فَلَا.
وَالصَّلَاةُ مِنْ السَّرَائِرِ، وَالصِّيَامُ مِنْ السَّرَائِرِ، إنْ شَاءَ قال: صَلَّيْت وَلَمْ يُصَلِّ.
وَمِنْ {السرائر} مَا فِي الْقُلُوبِ يَجْزِي اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ.
قال الْقَاضِي: قال ابْنُ مَسْعُودٍ: يُغْفَرُ لِلشهيد إلَّا الْأَمَانَةَ، وَالْوُضُوءُ مِنْ الْأَمَانَةِ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الْأَمَانَةِ، الْوَدِيعَةُ مِنْ الْأَمَانَةِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدِيعَةُ، تُمَثَّلُ لَهُ على هَيْئَتِهَا يوم أَخَذَهَا، فَيُرْمَى بِهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، فَيُقال لَهُ: أَخْرِجْهَا فَيَتْبَعُهَا فَيَجْعَلُهَا فِي عُنُقِهِ، فَإِذَا رَجَا أَنْ يَخْرُجَ بِهَا زَلَّتْ مِنْهُ وَهُوَ يَتْبَعُهَا، فَهُوَ كَذَلِكَ دَهْرَ الدَّاهِرِينَ.
وَقال أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: مِنْ الْأَمَانَةِ أَنْ ائْتُمِنَتْ الْمَرْأَةُ على فَرْجِهَا.
قال أَشْهَبُ: قال لِي سُفْيَانُ: فِي الْحَيْضَةِ وَالْحَمْلِ إذَا قالتْ: لَمْ أَحِضْ، وَأَنَا حَامِلٌ، صَدَقَتْ مَا لَمْ تَأْتِ بِمَا يُعْرَفُ فِيهِ أَنَّهَا كَاذبَةٌ.
وَفِي الْحديث: «غُسْلُ الْجَنَابَةِ مِنْ الْأَمَانَةِ».
المسألة الثَّالِثَةُ:
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كُلُّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {إنَّهُ لَقول فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ هَزْلٌ، وَإِنَّمَا هِيَ جَدٌّ كُلُّهَا؛ فَلَا يَهْزِلُ أحد بِعَقْدٍ أَوْ قول أَوْ عَمَلٍ إلَّا وَيُنَفَّذُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى لَمْ يَجْعَلْ فِي قولهِ هَزْلًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَزْلَ مَحَلٌّ لِلْكَذِبِ، وَلِلْبَاطِلِ يُفْعَلُ، وَلِلَّعِبِ يُمْتَثَلُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْغَرَضَ فِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَفِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}.
هذا الإمهال المذكور هنا ينافيه قوله: {فَاقتلوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية.
والجواب أن الإمهال منسوخ بآيات السيف والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

سورة الطارق:
{وَالسماء وَالطَّارِقِ (1)}
قوله: {والطارق}: الطارقُ في الأصل اسمُ فاعل مِنْ طَرَقَ يَطْرُقُ طُروقاً، أي: جاء ليلاً قال:
فمِثْلَكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعاً ** فألهَيْتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ

وأصلُه من الضَّرْبِ. والطارقُ بالحصى الضارِبُ به.
قال:
لعَمْرُكَ ما تَدْري الضواربُ بالحصى ** ولا زاجراتُ الطيرِ ما اللَّهُ صانعُ

ثم اتُّسِع فقيل لكلٍ جاء ليلاً: طارِقٌ.
{إن كل نفس لما عليها حافظ (4)}
قوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لما عَلَيْهَا}: قد تقدَّم في سورةِ هود التخفيفُ والتشديدُ في {لما}. فمَنْ خَفَّفها هنا كانت {إن} هنا مخففةً من الثقيلة، و{كل} مبتدأٌ، واللامُ فارقةٌ، و{عليها} خبرٌ مقدَّمٌ و{حافظ} مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملة خبرُ {كل} و(ما) مزيدةٌ بعد اللامِ الفارقةِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ {عليها} هو الخبرَ وحدَه، و{حافظ} فاعلٌ به، وهو أحسنُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ {كل} متبدأً، و{حافظ} خبرَه، و{عليها} متعلق به و(ما) مزيدة أيضًا، هذا كلُّه تفريعٌ على قول البصريِين.
وقال الكوفيون: إنْ هنا نافيةٌ، واللامُ بمعنى (إلا) إيجاباً بعد النفي، و(ما) مزيدةٌ. وتقدَّم الكلامُ في هذا مُسْتوفى.
وأمَّا قراءة التشديدِ فإنْ نافيةٌ، و{لما} بمعنى (إلا)، وتقدَّمَتْ شواهدُ ذلك مستوفاةً في هود. وحكى هارونُ أنه قرئ هنا {إن} بالتشديدِ، {كل} بالنصب على أنَّه اسمُها، واللامُ هي الداخلةُ في الخبرِ، و(ما) مزيدةٌ و{حافظ} خبرُها، وعلى كلِّ تقديرِ فإنْ وما في حَيِّزِها جوابُ القسمِ سواءً جَعَلها مخففةً أو نافيةً.
وقيل: الجواب {إِنَّهُ على رَجْعِهِ}، وما بينهما اعتراضٌ. وفيه بُعْدٌ.
{خلق مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)}
قوله: {دَافِقٍ}: قيل: فاعِل بمعنى مَفْعول كعكسِه في قولهم: (سيلٌ مُفْعَم)، وقوله تعالى: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإِسراء: 45] على وجهٍ.
وقيل: دافق على النسبِ، أي: ذي دَفْقٍ أو انْدِفاق.
وقال ابن عطية: يَصِحُّ أَنْ يَكونَ الماءُ دافقاً؛ لأنَّ بعضَه يَدْفُقُ بعضاً، أي: يدفعه فمنه دافِق، ومنه مَدْفوق. انتهى. والدَّفْقُ: الصَّبُّ ففِعْلُه متعدٍّ.
وقرأ زيدُ ابن علي {مَدْفُوقٍ} وكأنه فَسَّر المعنى.
{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصلب وَالترائب (7)}
قوله: {والترآئب}: جمع تَريبة. وهي مَوْضِعُ القِلادةِ من عظامِ الصدرِ؛ لأنَّ الولدَ مخلوقٌ مِنْ مائهما، فماءُ الرجل في صُلْبه، والمرأةُ في ترائبِها، وهو معنى قوله: {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإِنسان: 2].
وقال الشاعر:
مُهَفْهَفَةٌ بيضاءُ غيرُ مُفاضَةٍ ** تَرائِبُها مَصْقولةٌ كالسَّجَنْجَلِ

وقال:
والزَّعْفَرانُ على ترائبِها ** شَرِقَتْ به اللَّبَّاتُ والنَّحْرُ

وقال أبو عبيدة: جمع التَّريبة تريب.
قال:
ومِنْ ذَهَبٍ يَذُوْبُ على تَرِيْبٍ ** كلَوْنِ العاجِ ليس بذي غُضونِ

وقيل: {الترائبُ}: التَّراقي.
وقيل: أضلاعُ الرجلِ التي أسفلَ الصُّلْب.
وقيل: ما بين المَنْكِبَيْن والصَّدْرِ.
وعن ابن عباس: هي أطرافُ المَرْءِ يداه وِرجْلاه وعيناهـ.
وقيل: عُصارةُ القلبِ.
قال ابن عطية: وفي هذه الأقوالِ تَحَكُّمٌّ في اللغة.
وقرأ العامَّةُ {يَخْرُج} مبنياً للفاعل. وابنُ أبي عبلة وابن مقسم مبنياً للمفعول.
وقرأ أيضًا وأهلُ مكة {الصلب} بضم الصاد واللام، واليمانيُّ بفتحهما، وعليه قول العَجَّاج:
في صَلَبٍ مِثْلِ العِنانِ المُؤْدَمِ

وتَقَدَّمَتْ لغاتُه في سورة النساء. وأَغْرَبُها (صالِب) كقوله:
............. مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ

{إِنَّهُ على رجعه لقادر (8)}.
قوله: {إنه}: الضمير للخالقِ المدلولِ عليه بقوله: {خلق} لأنه معلومٌ أَنْ لا خالقَ سواهـ.
قوله: {على رَجْعِهِ} في الهاء وجهان:
أحدهما: أنه ضمير الإِنسانِ، أي: على بَعْثِه بعد موتِه.
والثاني: أنه ضمير الماءِ، أي: يُرْجِعُ المنيَّ في الإِحليلِ أو الصُّلْبِ.
{يوم تبلى السرائر (9)}
قوله: {يوم تبلى}: فيه أوجهٌ. وقد رتَّبها أبو البقاء على الخلافِ في الضمير فقال على القول بكونِ الضمير للإِنسان: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه معمولٌ لـ: (قادر). إلاَّ أنَّ ابنَ عطية قال بعد أن حكى أوجهاً عن النحاةِ قال: وكل هذه الفِرَقِ فَرَّتْ من أَنْ يكونَ العاملُ {لقادر} لئلا يظهرَ من ذلك تخصيصُ القدرةِ بذلك اليوم وحدَه. ثم قال: وإذا تُؤُمِّل المعنى وما يَقْتَضِيه فصيحُ كلامِ العربِ جازَ أَنْ يكونَ العاملُ {لقادر} لأنَّه إذا قدر على ذلك في هذا الوقتِ كان في غيره أقدر بطريق الأولى. الثاني: أن العاملَ مضمرٌ على التبيين، أي: يَرجعه يوم تُبْلى. الثالث: تقديره: اذكر، فيكونُ مفعولاً به. وعلى عَوْدِه على الماء يكونُ العاملُ فيه اذكر. انتهى ملخصاً.
وجَوَّزَ بعضُهم أَنْ يكون العاملُ فيه {ناصر}. وهو فاسدٌ لأنَّ ما بعد (ما) النافيةِ وما بعد الفاءِ لا يعملُ فيما قبلَهما.
وقيل: العامل فيه {رجعه}. وهو فاسدٌ لأنه قد فصل بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ، وبعضُهم يَغْتَفِرُه في الظرف.
{وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ (11)}
قوله: {ذَاتِ الرجع}: قيل: هو مصدرٌ بمعنى: رجوع الشمس والقمر إليها.
وقيل: المطر كقوله يصفُ سيفاً:
أبيضُ كالرَّجْعِ رَسوبٌ إذا

كما سُمِّي أَوْباً كقوله:
رَبَّاءُ شَمَّاءُ لا يَأْوي لِقُلَّتِها ** إلاَّ السَّحابُ وإلاَّ الأَوْبُ والسَّبَلُ

{إِنَّهُ لَقول فَصْلٌ (13)}
قوله: {إنه}: جوابُ القسمِ في قوله: {والسماء}. والهَزْلُ: ضدُّ الجَدِّ والتشميرِ في الأمر.
قال الكُميت:
.......................... ** يُجَدُّ بنافي كلِّ يوم ونَهْزِلُ

والضمير في {إنه} للقرآن.
وقيل: للكلامِ المتقدَّمِ الدالِّ على البعث والنشور.
{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}
قوله: {أَمْهِلْهُمْ}: هذه قرأةُ العامَّة، لما كرَّر الأمرَ توكيداً خالَفَ بين اللفظَيْن.
وعن ابن عباس {مَهِّلْهُمْ} كالأولِ. والإِمهالُ والتمهيلُ الانتظارُ. يقال: أَمْهَلْتُك كذا، أي: انتظرتُك لِتَفْعَلَه. والمَهْلُ: الرِّفْقُ والتُّؤَدَةُ.
قوله: {رُوَيْداً} مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى العامل، وهو تصغيرُ إرْواد على الترخيم.
وقيل: بل هو تصغيرُ (رُوْدِ)، وأنَشد:
تكادُ لا تَثْلِمُ البَطْحاءُ وَطْأتَه ** كأنَّه ثَمِلٌ يَمْشي على رُوْدِ

واعلَمْ أنَّ رُوَيْداً يُستعمل مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه، فيُضاف تارةً كقوله: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] ولا يُضافُ أخرى نحو: رويداً زيداً ويُستعمل اسمَ فعلٍ فلا يُنَوَّن، بل يبنى على الفتح نحو: رُوَيْداً زيداً ويقع حالاً نحو: ساروا رُوَيْدا، أي: متمهِّلين، ونعتاً لمصدر محذوف نحو: (ساروا رُوَيْداً)، أي: سَيْراً رويداً. وهذه الأحكامُ لها موضوعٌ هو أَلْيَقُ بها. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في الرجع:
وهو الإِعادة، والرَجْعةُ المرَّة منه.
والرَّجعة- بالفتح والكسر- في الطَّلاق، وفى العَود إِلى الدنيا بعد الممات، يقال: فلان يؤمن بالرَّجعة.
والرّجوع: العود إِلى ما كان منه البدءُ، أو تقديرُ الْبَدْءِ، مكانًا كان أَو فعلاً أَو قولاً، وبذاته كان رجوعه، أَو بجزءٍ من أَجزائه، أَو بفعل من أَفعاله، وقد رجع يرجع رُجوعا ومَرْجِعًا ورُجْعَى: عاد.
ورجعه رَجْعًا وأَرجعه: أَعاده.
قال:
تذكَّرت أَيَّامًا لنا ولياليًا ** مضت فجرت من ذكرهنَّ دموعُ

أَلا هل لها يوما من الدَّهر أَوْبةٌ ** وهل لى إِلى أَرض الحبيب رُجوع

وهل بعد تفريق النِّدام تواصلٌ ** وهل لنجوم قد أَفَلْن طُلوع

ووردت هذه المادّة في القرآن على عشرة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى المطر {وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ} أي المطر.
الثاني: بمعنى الردّ {رَبِّ ارْجِعُونِ} أي رُدُّونى، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} أي رُدَّه.
الثالث: بمعنى العود {لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} أي أَعود، {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ} أي عُدْنَا.
ونظائرهما كثيرة.
الرَّابع: بمعنى رجعة الطَّلاق {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ}.
الخامس: بمعنى الموت {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً}.
السَّادس: بمعنى الرّجوع إِلى الدنيا بعد الموت {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أي لا يُرَدُّون إِلى الدنيا فإِنا حرّمنا عليهم أَن يتوبوا ويرجعوا عن الذَّنب، تنبيها أَنَّه لا توبة بعد الموت.
السَّابع: بمعنى الإِقبال على الشيءِ {فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ} أي أَقبلوا عليها.
الثَّامن: بمعنى التوبة {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لعلهمْ يَرْجِعُونَ} أي يتوبون.
التَّاسع: بمعنى مصير الخلق إِلى الله تعالى، ومصير أمُور العالَم إِلىكلمته تعالى: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}.
العاشر: رجوع إِخْوة يوسف إِليه {إِذَا انقلبوا إِلَى أَهْلِهِمْ لعلهمْ يَرْجِعُونَ} {ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ}.
وقوله تعالى: {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} من الرّجوع أَو من رَجْع الجواب.
وقوله: {فَانْظُرْ مَاذا يَرْجِعُونَ} من رَجْع الجواب لا غير. اهـ.